Home المنتدى
السلام عليكم , ..زائرنا الكريم._.للمشاركه في المنتدي ينبغي عليك التسجيل ..اولا "
اسم المستخدم كلمة المرور: تذكرني

الحرب المحسومة والنكبة المحتومة -15/5/1948
(1 يستعرضون) (1) زائر
  • صفحة:
  • 1

الموضوع: الحرب المحسومة والنكبة المحتومة -15/5/1948

الحرب المحسومة والنكبة المحتومة -15/5/1948 13/11/2010 14:02 #32

  • main
  • غير متواجد
  • مدير
  • مشاركات: 36
  • السمعة: 20

الكاتب : عوني فرسخ


أولاً: الخلل الاستراتيجي لمصلحة القوات الصهيونية, غداة 15 أيار / مايو 1948
لم يقتصر الخلل الاستراتيجي لمصلحة المستوطنين الصهاينة على ما كان لهم من دعم دولي, التقى عليه المعسكران الرأسمالي بزعامته الأمريكية والاشتراكي بقيادته السوفيتية فقط, ولا لتفوق الصهاينة على صعيد القدرات العسكرية والإمكانيات المادية بحكم ارتباطهم العضوي بقوى الاستعمار والدور المنوط بمشروعهم الاستيطاني في خدمة قوى الاستغلال والهيمنة الدولية, والبرجوازية اليهودية المندمجة ضمن هذه القوى فحسب, ولا لكون الاستعمار الاستيطاني الصهيوني من بعض إفرازات المجتمعات الأوروبية التي كانت قد قطعت أشواطاً في التقدم العلمي والمعرفي والإداري وأدركت أهمية المؤسسات والنظم الإدارية, خلافاً لواقع المجتمع العربي الذي لم يكن قد تحرر بعد من تراكمات تخلف قرون الانحطاط المملوكي والاستبداد والفساد العثمانيين. وإنما إلى جانب ذلك كله تميزت القيادة الصهيونية كيفياً في نظرتها إلى الحرب التي قررت خوضها عن القيادة الوطنية الفلسطينية التي فرض عليها القتال وهي كارثة له.
فالقيادة الصهيونية نظرت إلى الحرب التي هي مقدمة عليها باعتبارها حرب مصير المشروع الاستعماري الاستيطاني العنصري الذي انتدبت من قبل تحالف الاستعمار والصهيونية لتنفيذه. وعليه اعتبرت كل مستوطن ومستوطنة جندياً مسؤولاً بما لا يقل عن مسؤولية القادة السياسيين والعسكريين. كما أنها خاضت بالتجمع الذي تقوده «معركة طارق», النصر أو الفناء, على الرغم من معرفتها اليقينية ووعيها التام بأن للتجمع الاستيطاني الذي تقوده عمقاً استراتيجياً ممتداً على جانبي الأطلسي, وذلك في مقابل قيادة عربية احتل الزعيم عندها المقام الأول, ولم تخضها بذهنية من يطلب إحدى الحسينيين: النصر أو الشهادة. ومع أنها كانت ذات تجربة في غاية المرارة مع الرهان العبثي على المجتمع الدولي, والاتكال غير المبرر على الأنظمة العربية, وبرغم ذلك لم تحاول مجرد محاولة الاستقواء بالعمق الاستراتيجي الشعبي العربي الذي كان في قمة انفعاله حماسة للقتال في فلسطين.
ولقد نقل عن نابليون أنه قال:«في الحرب للمعنويات ثلاثة أرباع اللعبة والربع الأخير للجنود والسلاح». وإذا كان ذلك يصدق في حال الجيوش النظامية فإنه في حال معارك الشعوب أكثر صدقاً. ومنذ اليوم الأول كانت الحركة الصهيونية مدركة أهمية العامل النفسي في نجاح مشروعها. وذلك ما تجلى في برامج التربية والتعليم منذ رياض الأطفال وحتى الجامعة, إذ وضع الطفل أمام خيار وحيد:«الصهيونية ولاشيء عداها». ولقد أولت العامل النفسي اهتماماً واضحاً طوال فترة حرب 1947 ـ 1948، وبخاصة في القدس والمستعمرات المعزولة. ولم تكتف بالقناعة التي ترسخت في فكر ووجدان كل مستوطن ومستوطنة وإنما أقامت جهاز توعية وتعبئة مهمته تعميق الشعور بالخطر واستفزاز غريزة الدفاع عن النفس, بتأكيد أن التجمع الاستيطاني الصهيوني يواجه معركة وجود لا حدود, وأن ليس أمامه غير هزيمة العرب أو يقذف به في البحر. وإلى الجهاز العزف على أسطوانة «القذف في البحر» ونسبتها إلى هذا الزعيم السياسي والقائد العسكري العربي أو ذاك.
وفضلاً عن إدارة الصراع باعتباره «معركة طارق» يخوضها تجمع استيطاني يراد غرسه في أرض طالما لفظت الغزاة, أدار بن غوريون وأركان القيادة الصهيونية سياسيين وعسكريين الصراع وفق إستراتيجية تميزت بوضوح الهدف, وتوفر الإدارة لتحقيقه, وحشد الموارد اللازمة لذلك, ودقة التخطيط والتنظيم, وإدراك دور التفوق العسكري, وإحكام الربط بين الوسيلة العسكرية والوسيلة السياسية عن طريق التنسيق المسبق مع قوى دولية فاعلة, و إدراك دور الحرب النفسية عن طريق التغلف بذرائع الدفاع عن النفس. ولقد اتخذت قيادة الهاغاناه قراراً بعدم هجر أي مستعمرة طوعاً, تقديراً منها بأن ترك المستعمرات, حتى ولو لأسباب إستراتيجية بتقصير خطوط المواصلات, مؤكدة أن ذلك قد يكون له نتائج خطيرة في المدى البعيد, حيث إن حدود الدولة الصهيونية سوف تحدد, قبل كل شيء, على
أساس التواجد الفعلي للمستوطنين ومواقع المستوطنات على الأرض.
وبالمقابل ندر بين القادة السياسيين والعسكريين العرب من لم يبد طمأنينة غير محدودة على الحاضر والمستقبل, نتيجة شعور بعضهم بالانتماء التاريخي والطبيعي إلى أمة طالما قهرت الغزاة وأرض لم يستقر فيها عبر التاريخ معتد وافد, ويقين البعض الآخر بأن الأمة صاحبة حق مشروع غير منازع فيه, وأن الحق لا يماري فيه إنسان متحضر. وتصور القطاع الغالب بأن بريطانيا والولايات المتحدة لن تغامرا بمصالحهما الكبرى في البلاد العربية لترضي «حفنة من الصهاينة», دون إدراك أن المشروع الصهيوني إنما يراد به أن يكون الحارس الدائم لهذه المصالح, والأداة الكابحة لأي محاولة عربية للمساس بها.
ويكاد ينعقد إجماع الباحثين الجادين في الصراع العربي ـ الصهيوني على أن قصور القيادات الفلسطينية خاصة, والعربية عامة, هو المسؤول تاريخياً عن كون الحرب محسومة والنكبة محتومة، وليس الأداء العسكري برغم محدودية إمكانية رجاله, الذين تميز غالبيتهم بالشجاعة والإقدام وروحية الاستشهاد, على اختلاف انتساباتهم القطرية, وسواء كانوا من القوات الشعبية أو ضباط وجنود القوات النظامية التي دخلت فلسطين. وقد تصرف جمهورهم العام باعتبارهم عرباً يتصدون لتحد استعماري ـ صهيوني يستهدف الأمة العربية وليس شعب فلسطين فقط.
وفي دحض الإدعاء الصهيوني بأن حرب 1947 ـ 1948 كانت «معركة بين داود وغوليات» استشهد دومنيك فيدال بما يقوله المؤرخون الإسرائيليون الجدد. ومن ذلك ما انتهى إليه بني موريس, في كتابه 1948 وما بعدها من أنه خلال المرحلة الأولى من الحرب, أي من كانون الأول/ديسمبر 1947 إلى 14 أيار/مايو 1948 كان اليهود في معظم المعارك الحاسمة, أكثر عدداً من خصومهم وأفضل تسليحاً وتدريباً. ويضيف فيدال مقتبساً من كتاب بني مورس المذكور أن بين 15 أيار/مايو 1948 وكانون الثاني/يناير 1949 تميز الصهاينة بالتنظيم والقيادة والثقة بالنفس عما كان لدى جيوش مصر وسورية والعراق ولبنان, وفي كل موقف تفوقت الهاغانا بعدد القوات وفي منتصف أيار/مايو كان للهاغاناه على الأرض 35000 مسلح مقابل ما بين 25000 ـ 30000 للجيوش العربية. وفي تموز/يوليو بلغت القوات الإسرائيلية 65000 مسلح, وفي كانون الأول/ديسمبر 95000, مما يعني تفوقها على الجيوش العربية في كل مواجهة.
أما ديفيد هيرست فيذهب إلى أن «جيش الإنقاذ» كان يضم 3800 متطوع بينهم 1000 فلسطيني, وأنهم بدأوا يدخلون تدريجياً في كانون الثاني/يناير 1948, أما القوات التي أرسلتها خمس دول عربية إلى فلسطين في 15 أيار / مايو 1948 فقد كان قوامها 15000 رجل «وكانت أثقل أسلحتها اثنين وعشرين دبابة خفيفة وكان لديها عشر مقاتلات من طراز سبتفاير».
فيما يذكر د. أبو ستة, استناداً إلى مراجعته ما كشف عنه من وثائق, أن عدد القوات الإسرائيلية بلغ 74450 في آب/ أغسطس 1948, ثم 99122 في تشرين الأول أكتوبر, قبل الهجوم على الجبهة المصرية, وأخيراً 121000 قبل توقيع اتفاقية الهدنة. ولم يتفق من أرخوا للنكبة من العرب على أرقام القوات التي دخلت فلسطين بداية, وتلك التي كانت عاملة فيها حتى توقيع اتفاقيات الهدنة. فهي عند دروزة تراوحت بين 15000 في البداية و50000 في النهاية, فيما هي عند د. أبو ستة كالآتي:«القوات الأردنية 4500 جندي, القوات العراقية بدأت بـ 2500 جندي زاد عددها فيما بعد, اللبنانية بدأت بـ 700 وانتهت بألف. والقوات السورية حوالي 2000. أما القوات المصرية فبدأت بـ 2800 ثم وصل عددها إلى 28500, بالإضافة إلى متطوعين سعوديين 1109 وسودانيين 1675 وفلسطينيين 4410» ويقرر أن «ليست هناك فائدة عملية من جمع تلك الأرقام عربياً, لأنه لم يكن بينها أي تنسيق وحتى في الجيش الواحد كان سوء الاتصالات كفيلاً بعدم معرفة قطاع ما يعمله القطاع الآخر من الجيش».
أما د. الكيلاني فيقول: «استناداً إلى ما توفر لدينا من معلومات من مصادر شتى, وإلى وقائع الحرب وخطط الطرفين وأداء القوات فإننا نرجح أن ميزان القوى في حرب 1948 كان على النحو التالي:
أ ـ في الأشهر الستة التي سبقت دخول الجيوش العربية «المرحلة التمهيدية»: نحو 12000 مناضل فلسطيني وعربي مقابل 60000 صهيوني.
ب ـ في المرحلة الأولى من قتال القوات النظامية, والتي تنتهي بإعلان الهدنة الأولى في 11/6/1948: نحو 21000 جندي عربي مقابل 67000 جندي إسرائيلي.
ج ـ في المرحلة الثانية بعد انتهاء الهدنة الأولى ـ من القتال: نحو 40000 جندي عربي مقابل 106000 جندي إسرائيلي.
ويظل قول د. أبو ستة إن لا معنى لجمع القوات العربية ما ينبغي الأخذ به لأن القوات النظامية العربية لم تعمل في أي موقعة باعتبارها تخوض معركة ضد عدو واحد. وفضلاً عن ذلك اعتمدت القوات الإسرائيلية التركيز على كل جبهة على حدة, مستغلة في ذلك عدم تعاون القوات العربية. وهذا ما يؤكده المؤرخ الإسرائيلي أميتزور إيلان بقوله:«إنه لم تكن عند إسرائيل ضائقة مالية حقيقية لشراء الأسلحة, بل كان هناك فائض مالي يزيد على الحاجة, إذ وصلت المبالغ التي جمعت لذلك إلى 134 مليون دولار».
ثم إن القوات العربية عانت قصور التسليح نتيجة القيود التي وضعت على مشتريات الدول العربية من السلاح, كما من فساد السلاح المشترى, وكان لبعض كبار المسئولين دورهم في ذلك. ولقد أثير موضوع «الأسلحة الفاسدة» في مجلس الشيوخ المصري والصحافة عن طريق تسريبات «الضباط الأحرار» لعضو مجلس الشيوخ مصطفى مرعي, وللصحافي إحسان عبد القدوس, الذي أفاض بالكتابة عنها في روز اليوسف. ويذكر بهجت أبو غريبة أنه عندما تسلم دفعة من السلاح كان قد أرسلها عبد القادر الحسيني والحاج أمين الحسيني مؤلفة من نحو 15 قطعة, وجد نصفها غير صالح للاستعمال, وأنه عندما التقى عبد القادر أول مرة بعد دخوله فلسطين في 22/12/1947 اتضح أن المهربين الذين تولوا إيصال ستة رشاشات برن كان اشتراها قد استبدلوها بأخرى قديمة وغير صالحة.
وحول عمليات شراء السلاح يوم ذاك يقول هيكل: «وكانت العروض تتوالى من تجار سلاح ظهروا فجأة في عدد من العواصم العربية. وكذلك كانت وزارة الحربية «المصرية» في ذلك الوقت قد أرسلت عدداً من بعثات شراء السلاح إلى بعض مواقع الحرب العالمية الثانية, والتي كانت القوات المحاربة قد تركت فيها مستودعات ذخيرة لم تر فائدة كبيرة في نقلها. وكان معظم هذه الأسلحة وذخائرها قد تركت في العراء لعوامل الجو أو في مخازن ميدانية أقيمت على عجل مع حركة تقدم وتراجع الجيوش. وفي معظم الأحوال فإن هذه المعدات وذخائرها بيعت فيما بعد, أو تركت لمتعهدين ومقاولين محليين كلفوا غالباً بالتخلص منها بوسيلة أو بأخرى».
وكان من بين ما اشترته مصر دبابات «لوكست» الإنكليزية من مخلفات الحرب العالمية الثانية, وهي في الأصل دبابات قد صنعت في أمريكا لحساب بريطانيا. وكانت قد اشترتها شركة «دلتا للتجارة», التي تتعامل بالحديد الخردة, بعد أن أجاز الأمريكيون الصفقة باعتبار أن الدبابات غير صالحة الفعالية. ثم أدخلت ورشة تصليح في مصر, ولم يكن إصلاحها مجدياً, إذ لم تكن مدافعها تطلق القذائف, وإذا أطلقتها لا تجيد التصويب. ولكن قيادة الجيش المصري ووزارة الحربية دفعتا بها إلى الميدان بأمل أن تكون نافعة, غير أن ذلك لم يتحقق.
وتشير أوراق جميل مردم إلى تقرير كان قد رفعه حسني الزعيم, القائد العام للجيش السوري, في خريف 1948 يعرض فيه شراء 50 دبابة منتقاة من خردة في قبرص, بأسعار عالية, والتسليم بعد شهور. و يعترف الزعيم بأنها غير صالحة, ولكن يمكن استعمالها ناقلة للذخيرة والجنود, هي دون مدافع, و«لكن وجودها يؤثر إيجابياً في معنويات جنودنا, ولو كانت بدون أسلحة نظراً لضخامتها».
وكانت بعثة مشتريات سورية قد تعاقدت على شراء كمية كبيرة من السلاح مع مصانع «سكودا» التشيكية, وبعد استيلاء الشيوعيين على جهاز الدولة تماماً في تشيكوسلوفاكيا تقرر عدم بيع الأسلحة للعرب لأنهم «معتدون», فيما كانت السلطات التشيكية تبدي استعداداً واسعاً لبيع السلاح للصهاينة رغبة «في دعم اليهود كقوة معادية للبريطانيين في الشرق الأوسط». وكانت السفينة الإيطالية «نورا» تحمل لحساب سورية 6000 بندقية و8 ملايين رصاصة تشيكية, كان قد سبق شراؤها, فلحق بها عملاء الهاغاناه وفجروها في 10/4/1948. وبعد انتشال الشحنة, التي كانت نسبة ضئيلة منها فقط قد تضررت, وحملت على السفينة الإيطالية أرجيرو» لحق بها عملاء «الهجرة الثانية», ونجحوا في خديعة قبطانها واستولوا عليها.
ويلاحظ د. الكيلاني ـ وهو المحق ـ أن الأشهر الفاصلة بين تاريخ أمر الحشد في 9/7/1947، وتاريخ بدء قتال القوات النظامية في 15/5/1948، كانت كافية لكي تضع القيادات العسكرية العربية تأهيل الجنود للقتال, وأن تسعى إلى التزود فوراً بالسلاح, وأن تجمع المعلومات الوافية عن حجم قوات العدو وتمركزها, وعن أسلحته, واحتمالات فعله ورد فعله, وحجم القوات الصديقة, ووسائط النقل الموضوعة تحت تصرفها, والقوات الاحتياطية, ونظام الاتصال والرقابة والقيادة, ومحاور العمليات الرئيسية والثانوية, وأساليب التمويه والخداع, وأشكال المناورة, وأنواع الدعم الجوي والبحري وحجمهما, وأشكال التعاون والتنسيق بين قوات الدول العربية المشاركة في القتال.. وبعد التدقيق فيما كان يقرر:« وهكذا دخلت القوات العربية النظامية فلسطين في الساعات الأولى من يوم 15 أيار/مايو 1948 ولم تكن خططها العامة والخاصة, ولا استعداداتها وحشدها, ولا محاور عملياتها, ولا تمركزها وانتشارها وحركتها, في الحد الأدنى من المستوى المطلوب والمرغوب لمثل تلك الحرب التي بدأتها يوم ذاك».
ثانياً واقع الجيوش العربية عشية حرب 1947 ـ1948
بداية لا بد من إيضاح خطأ القول بأن جيوش دول الجامعة العربية شاركت في حرب 1947 ـ 1948, ذلك لأن ما شاركت به إنما كانت قوات محدودة من جيوش مصر والعراق وسورية والأردن, وبعض سرايا الجيشين السعودي واليمني. والسؤال المحوري هل كان لدى القوات التي زج بها في الميدان إستراتيجية عسكرية في مستوى إستراتيجية العدو؟ وهل كانت مكافئة له في مجالي التسليح والتدريب, أم أنها كانت تعاني قصوراً استراتيجياً في المجالين؟.
وفي تحديده ما يقصد بالإستراتيجية العسكرية يقول ليدل هارت إنها «فن توزيع الوسائل العسكرية لتحقيق أهداف سياسية». ولأن بعض قوات الأنظمة العربية المشاركة في القتال كانت متباينة الدافع والغاية في تلك المشاركة, فقد افتقدت وحدة الهدف السياسي, وبالتالي الإستراتيجية العسكرية الواحدة. وكان طبيعياً والحال كذلك أن ينتهي د. الكيلاني في توصيف إستراتيجية ما سماه «الإدارة العربية» ـ والتي كانت في الواقع إرادات ـ إلى القول: «كانت الإدارة العربية ذات أغراض إستراتيجية يشوبها الاضطراب حيناً, وعدم الوضوح حيناً آخر, فهي إدارة فاقدة الرؤية الإستراتيجية الشمولية». ويضيف موضحاً: «تنبعث الاستراتيجيات العربية من مصادر عدة ومؤسسات كثيرة, عددها عدد الأقطار العربية نفسها ـ وكانت يومها سبعة ـ وكان يمكن لهذه المصادر والمؤسسات أن تصب في تيار استراتيجي عام عريض, لولا أن الدوافع التي كانت الاستراتيجيات العربية تستند إليها لم تكن دائماً على توافق في الفكر والمفهوم والأهداف الإستراتيجية, حتى أنها كانت, في حين من الأحيان, أو موضع من المواضع, متباينة إلى حد التناقض, وخصوصاً في النيات».
ولقد ترتب على غياب الاتفاق على إستراتيجية قومية لإدارة الصراع, وفقدان الثقة بين القادة السياسيين والعسكريين, دخول كل قوات نظامية عربية من حدود بلادها مع فلسطين مع غياب شبه كامل للتنسيق بين قياداتها والقيادة العليا. بل مضى كل طرف «يضع في ميدان القتال ما يقرره بذاته من قوات, بغير التزام محدد بما يفرضه العمل المشترك, خصوصاً في مجال حرب بالسلاح».
ففي موضوع القيادة كان العسكريون يلحون على إقامة قيادة عامة تخضع لها جميع القوات المشتركة في القتال. واقترح بداية تشكيل ثلاث قيادات: الأولى للقوات الأردنية, والثانية للسورية واللبنانية, والثالثة للمصرية والكتائب السعودية واليمنية, على أن تتبع القيادات الثلاث لقيادة عليا عامة. غير أن الاقتراح رفض واستعيض عنه بإقامة قيادة عامة تتبعها جميع القوات. وفي اجتماعات اللجنة السياسية في عمان بين 23/ 4 ـ 2/5/1948 اعتذر الوفد المصري عن تولي مصر القيادة العامة, فطلب الملك عبد الله تولي الجنرال غلوب قيادة القوات العربية المزمع دخولها فلسطين.
وينقل هيكل حواراً دار بين غلوب وأمين عام الجامعة عبد الرحمن عزام قبيل اتخاذ قرار اللجنة السياسية, كما ورد في مذكرات غلوب بعنوان «شاهد في حياتي» وفي برقية السفير البريطاني في عمان للخارجية البريطانية في 16 /5/1948 برقم 121 /817, وفي كتاب آفي شلايم التواطؤ عبر الأردن. ولأهمية الحوار أقتبسه بنصه كما ورد في كتاب العروش والجيوش.
«يقول غلوب: إن عزام باشا مضى يحدثني عن الحرب القادمة وهو دون أن يقصد يقنعني في كل دقيقة بأنه لا يعرف شيئاً عن الحرب, ولقد أدهشني أن قراراً اتخذ بدخول الجيوش دون أن يعنى أحد بسؤال كل جيش عما لديه من قوات وعن مدى استعداد القوات للقتال». وأضاف قائلاً: «إن هناك 10 آلاف جندي من مصر سوف يشتركون في القتال, وإن هناك 6 آلاف من سورية والعراق, وأضاف و4500 من المتطوعين معظمهم من الليبيين الذين اشرف على تجنيدهم هو شخصياً كأمين عام لجامعة الدول العربية سوف يدخلون». وقال عزام باشا: «هكذا يكون هناك 20500 جندي عربي». وقلت: «يا سيدي ولكن لدى اليهود 60000 يهودي».
«وكان رد عزام باشا من أغرب ما سمعت في حياتي, فقد عرض علي أن أكون القائد العام لجيوش الدول العربية. ولما أظهرت له دهشتي أكد لي أن جميع الدول العربية موافقة, أو سوف توافق, على هذا القرار. وقلت: «إنني ما زلت أستغرب أن يتولى ضابط بريطاني قيادة جيوش الدول العربية في ظروف يمكن أن تؤدي إلى الحرب». وكان رد عبد الرحمن عزام إنني سأفعل ذلك ليس بوصفي ضابطاً بريطانياً وإنما بوصفي قائداً للفيلق العربي الذي تريد الدول العربية كلها أن تتولى مسؤولية دعمه وتجهيزه باعتباره جيشاً لكل العرب. وأراد عزام باشا أن يطمئنني فقال: «إن الجامعة العربية قامت صباح اليوم بتحويل 250 ألف جنيه إسترليني لحساب الجيش الأردني, وفوق ذلك فهو مفوض بأن يعرض دعماً سنوياً مضموناً للجيش الأردني مقداره 4 ملايين جنيه إسترليني».
ويضيف هيكل موضحاً ظروف تولي الملك عبد الله القيادة العامة أن الملك عبد الله كان قد طلب من الملك فاروق تعيين ضابط مصري رفيع المستوى لقيادة الجهد العربي كله في فلسطين. وفي يوم 13/5/1948 توجه وزير خارجية الأردن فوزي الملقي إلى القاهرة, وكانت علاقته قوية بقصر عابدين منذ عمل سفيراً للأردن في مصر. وعاد الملقي يحمل رد فاروق بأنه هو والملك عبد العزيز آل سعود يؤكدان بطريقة لا لبس فيها ولا رجوع عنها بأن «الجميع يقبلون جلالته قائداً أعلى لكل الجيوش العربية في فلسطين». كما أخطر فاروق الملقي بأنه اختار بعثة اتصال عسكرية, برئاسة قائد سلاح الفرسان اللواء سعد الدين صبور, لتكون حلقة الاتصال بين القيادة العليا في عمان, وبين القيادة العامة في القاهرة.
وفي اجتماع اللجنة السياسية في دمشق يوم 11/5/1948 تقرر قيام أمير اللواء نور الدين محمود بأعمال القيادة العامة. وقيل حول القرار الذي جاء في ربع الساعة الأخير: «وهذا يعني أنه كان على قيادة الجيوش العربية أن تستعد خلال أربعة أيام لحرب فلسطين فقط, وأن هذا الاستعداد في تلك المدة الزمنية أكثر من مجرد مهمة صعبة أو مستحيلة. فالقيادة فضلاً عن أنه لم يكن لديها الوقت لمجرد الإطلاع على أوضاع الجيوش العربية وقدراتها, فإن الأمير اللواء نور الدين محمود, والذي كان يعتبر رسمياً نائب القائد العام الملك عبد الله, لم يكن يلقى تعاوناً من القيادتين المصرية والأردنية. وفضلاً عن ذلك لم يكن لدى القائد العسكري العام «نور الدين محمود» هيئة أركان موحدة أو مشتركة, وفق قيادته مزوداً بشبكة كاملة من وسائل القيادة والسيطرة والاتصال السلكية واللاسلكية».
ولقد صاحب إعلان إقامة القيادة العامة فيض من التصريحات والبيانات المتفائلة تبارى في إصدارها الزعماء العرب. وبدا عدد من أعضاء اللجنة السياسية على قناعة تامة بأن مجرد زحف الجيوش العربية, بقطع النظر عن عددها وعٌددها, كاف لحمل الدول الكبرى على التدخل وإيجاد حل يرضى عنه العرب. ويعقب دروزة:«وإن هذا التفكير كان عاملاً جوهرياً في ما بدا من استهتار وعدم اهتمام لكمية وكيفية الزحف في الجولة الأولى».
ويذكر آفي شلايم أن غلوب كان يحتفظ بخط اتصال مباشر مع الوكالة اليهودية, وأنه ابتداء من آذار/مارس 1948 أنشأ خطاً مباشراً مع قيادة الهاغاناه تولى مسؤوليته مساعده البريغادير نورمان لاش, وأنه بعث برسالة إلى الهاغاناه, من خلال لاش والكولونيل ديزموند غولدي, تتضمن أن غلوب على استعداد لتأخير تقدم قوات الفيلق العربي إلى القدس القديمة لإعطاء الهاغاناه فرصة لتثبيت سيطرتها على القدس الجديدة. وحتى إذا اضطر تحت الضغوط إلى إبداء نوع من المقاومة فإنه يتعهد بأن تلك المقاومة سوف تكون نوعاً من التمويه وليس أكثر.
وبالمقابل تميز التجمع الاستيطاني بامتلاك وحدة القيادة, ممثلة بالوكالة اليهودية, ووحدة الهدف السياسي بإقامة الدولة استناداً إلى قرار التقسيم. ولقد اهتم معظم القادة الصهاينة أمثال إيغال يادين, وإيغال ألون, وإسحق رابين, بدراسة واستيعاب أفكار ليدل هارت ـ كما وردت في كتابه إستراتيجية التعرض عن قرب ـ والتي لخصها الاستراتيجي الفرنسي الجنرال أندريه بوفر بأربع قواعد:
أ ـ إجبار الخصم على بعثرة قواته بواسطة التقرب غير المباشر.
ب ـ المفاجأة بالقيام بعمل غير متوقع.
ج ـ عمل القوي ضد الضعيف.
د ـ البحث عن الحل الحاسم في حقول العمليات الثانوية إن أمكن.
ولقد وصل اهتمام القادة الصهاينة بليدل هارت حد السعي إلى الاتصال به, وكان معروفاً بشدة حماسته للمشروع الصهيوني, ودفاعه عنه, والدعوة لدعمه. وقد روى في مذكراته أنه كان منذ الثلاثينيات, في أثناء الثورة العربية 1936 ـ1939, مهتماً بدور ضابط المخابرات البريطاني وينغيت في تدريب وتنظيم الهاغاناه.
وتأسيساً على هذه الحقيقة يغدو منطقياً القول إن العامل الأول والأهم في أن الحرب كانت محسومة والنكبة محتومة إنما هو واقع التجزئة والتبعية الذي كانت تعيشه الأمة العربية, وعدم توصل الفكر والعمل العربيين إلى صياغة إستراتيجية عامة وشاملة ومستمرة لإدارة الصراع مع التحالف الاستعماري ـ الصهيوني, وذلك فضلاً عن الخلل الإستراتيجي لمصلحة العدو على صعيد القوات والعتاد.
وفضلاً عن ذلك كان رؤساء الأركان في اجتماعهم في دمشق في 10/5/1948 قد وضعوا خطة تحرك القوات على النحو التالي: تدخل القوات اللبنانية فلسطين من رأس الناقورة باتجاه نهاريا وعكا, وتدخل القوات السورية من لبنان على محور بنت جبيل ـ صفد ـ الناصرة ـ العفولة ـ جنين, حيث تلاقي القوات العراقية, التي ستدخل من جسر المجامع على نهر الأردن إلى بيسان والعفولة.
وتدخل القوات المصرية من منطقة غزة والنقب إلى خط عرضي يمتد من تل أبيب إلى بيت لحم. غير أن الملك عبد الله, باعتباره القائد العام, أجرى على خطة رؤساء الأركان ثلاثة تعديلات, يقضي الأول بتغيير القوات السورية محور دخولها لتسلك محور دمشق ـ القنيطرة سمخ. ويقضي الثاني بتحول القوات اللبنانية باتجاه المالكية, بعد أن كان خط سيرها بجانب ساحل البحر الأبيض المتوسط. ويقضي الثالث بتغيير حركة القوات الأردنية. وبعد اتصالات ومداخلات اقتنع الملك بإلغاء التعديلات والإبقاء على الخطة كما وضعها رؤساء الأركان.
غير أن العدول عن التعديلات المقترحة جرى بعد أن كانت القوات السورية قد التزمت بها وانسحبت من لبنان, ومضت باتجاه القنيطرة وبحيرة طبرية. كما كان متعذراً على القوات اللبنانية العودة إلى المحور الأول. ومن جهة ثانية نفذت القوات الأردنية التعديلات المقترحة, بعد التراجع عنها بثلاثة أيام, بالانسحاب من قطاع نابلس إلى قطاع القدس, مما اضطر القوات العراقية إلى التوجه إلى منطقة نابلس. وبذلك سقط من الخطة الأصلية موضوع لقائها بالقوات السورية عند جنين. ويعقب د. الكيلاني: «لقد أدى التعديل الرئيس في خطة العمليات والمحاور إلى تغيير في قوامها. فبعد أن كانت الخطة تقوم على أساس القتال على الخطوط الخارجية التي تجبر العدو على توزيع قواته على عدة جبهات, وعلى تشتيت قواه, وانشغالها بالقتال على عدة جبهات في وقت واحد, إشغالاً يخفف فاعلية الحشد والتركيز السلاحي, ويمتص قدرات العدو القتالية, دخلت الجبهة الشمالية العربية من الحد الأدنى من القوات لتحقيق هذا الأسلوب في القتال, إلا من قوة صغيرة هي القوة اللبنانية التي لم تكن قادرة على جذب جزء هام من قوات العدو, وعلى التوغل في فلسطين بدءاً من شمالها.. وهكذا دخلت الجيوش العربية في فلسطين في الساعات الأولى من يوم 15 /أيار / مايو 1948, ولم تكن خططها العامة والخاصة, ولا استعداداتها وتعبئتها وحشدها, ولا محاور عملياتها, ولا تمركزها وانتشارها وحركاتها, في الحد الأدنى من المستوى المطلوب والمعروف لمثل تلك الحرب التي بدأتها يوم ذاك».
وأن تكون تلك حال القوات النظامية العربية غداة دخولها فلسطين ففي ذلك الدلالة الواضحة على أن الأنظمة, الفاقدة استقلال قرارها السياسي, والأسيرة لواقع التجزئة والتخلف والتبعية, قد ارتضت إقرار الهزيمة على تلك القوات المحددة العدد والفعالية قبل أن تتحرك. وذلك الذي كان, وفي وقائع القتال البرهان الساطع.

  • صفحة:
  • 1
مدة انشاء الصفحه: 0.69 ثواني